
محمد العمراني
ثلاث أشهر بالتمام والكمال مرت على التعيين الرسمي لعبد الإله بنكيران في منصب رئيس الحكومة، مكلفا بتشكيلها، ولا يبدو في الأفق ما يفيد أن هذا المولود الجديد أوشك على الخروج إلى الوجود..
بل إن التطورات المتسارعة لمسار المفاوضات تؤشر على وصولها إلى منغلق غير مسبوق في المشهد السياسي المغربي، مما يفتح معه باب التوقعات مشرعة على سيناريوهات متناقضة..
الباب المسدود الذي وصلت إليه مشاورات تشكيل الحكومة، كان من نتائجه المباشرة تعطيل عمل مؤسسات دستورية، بما فيها مؤسسة البرلمان، ولولا مستجدات انضمام المغرب للاتحاد الإفريقي، الذي استوجب عرض اتفاقية الانضمام على البرلمان بمجلسيه (النواب والمستشارين) للمصادقة قبل 30 يناير الجاري، لظلت المؤسسة المخول لها دستوريا تشريع القوانين ومراقبة الحكومة في وضعية تجميد قسري ضدا على دستور المملكة..
ينبغي الاعتراف أن مسلسل تشكيل الحكومة قد أسقط شجرة التوت على زعماء الأحزاب السياسية، الذين بدوا مثل أي محاربين انتهوا لتوهم من إحدى الغزوات، لتندلع بينهم معركة طاحنة لاقتسام الغنائم، وتوزيع المواقع ومراكز النفوذ..
ما يدفع إلى الاشمئزاز والتقزز من هؤلاء الزعماء، أنه في الوقت الذي انساقوا فيه نحو التطاحن على اقتسام كراسي الحكومة، ظل ملك البلاد وفيا لاختياراته التي تضع المصلحة العليا للوطن هي المحدد الأول والأخير لجميع تحركاته ومبادراته، في رسالة واضحة للنخب الحزبية، التي يبدو مع كامل الأسف أنها لم تلتقط مراميها بعد..
من يتحمل المسؤولية إذن في ما آلت إليه وضعية المشهد السياسي بهذا البلد الذي نرجو أن يظل آمنا مطمئنا؟..
الزعماء الكبار الذين وضعتهم الأقدار في محطات حاسمة من تاريخ شعوبهم ودولهم، يتصرفون كرجال دولة يضعون مستقبل شعوبهم ومصالح دولهم فوق أي اعتبارات أخرى مهما كانت شخصية أو حزبية، يترفعون عن صغائر الأمور، ويتحاشون الانسياق وراء التفاهات و الابتعاد عن ممارسات المراهقة السياسية المتأخرة، وتجنيب بلدانهم كل مسببات تأزيم الأوضاع…
بنكيران وجد نفسه في قلب محطة تحول مفصلية في مسار البلاد نحو تعزيز اختيارها الديمقراطي، فهو أول رئيس حكومة بعد دستور 2011، وزعيم حزب بوأه المغاربة صدارة نتائج اقتراع 25 نونبر 2011.
وعوض أن يقود هاته المرحلة بنوع من الحكمة والتبصر، مستحضرا رهان تطوير الممارسة الديمقراطية في البلد، اختار منطق الغلبة الحزبية، وبدا واضحا أنه يسعى إلى سحق خصومه السياسيين، والاستئساد بالمشهد السياسي الوطني، مستفيدا من حساسية الشعب المغربي المفرطة تجاه فساد النخب الحزبية، واستغلال النفوذ، مستغلا في ذلك مؤهلاته الخطابية والتواصلية الهائلة، بل لم يتردد في شطر الساحة السياسية إلى فسطاطين، فسطاط الإيمان والإصلاح تحت إمرة تنظيمه الحزبي، وفسطاط الفساد والتحكم والاستبداد يتخندق فيه كل من عاداه!..
ولأجل ذلك فإن بنكيران لا يتحرج في تبرير تحالفه مع من يصفهم بالمفسدين ما دام يخدم مشروعه الحزبي (هجومه على الأحرار في النسخة الأولى من الحكومة، ثم الانقلاب إلى حليف لهم والهجوم على الاستقلال بعد خروجه من الحكومة، التحالف مع البام محليا، وشيطنته مركزيا)!..
ثم جاءت محطة السابع من أكتوبر، وقرر المغاربة مرة أخرى منح الصدارة لحزب بنكيران، في غياب أي بديل حقيقي قادر على تقديم عرض سياسي يجعلهم في وضعية المفاضلة بين مشروعين..
التجاوب الملكي مع إرادة الشعب المغربي كان فوريا، حين بادر ملك البلاد إلى تعيين بنكيران رئيسا للحكومة مكلفا بتشكيلها…
وعوض أن يقدر بنكيران وحزبه الأمانة التي وضعها المغاربة على عاتقهم حق قدرها، والتصرف كشركاء في تعزيز البناء الديمقراطي إلى جانب باقي الفرقاء السياسيين، بما يضمن صيانة لحمة الوطن، نجدهم مع كامل الأسف تصرفوا وكأنهم حازوا تفويضا شاملا من طرف الشعب المغربي من أجل الاستفراد بمقاليد الأمور، وفرض منطقهم ورؤيتهم على الجميع، تحت التهديد بالعودة إلى صناديق الاقتراع لحسم المعركة، متناسين أن الشعب المغربي منحهم 125 مقعدا من أصل 395، في رسالة واضحة مفادها أن المغاربة حريصون على حماية التعددية الحزبية.
لقد سجل المغاربة كيف دبر رئيس الحكومة المعين مفاوضاته من أجل تشكيل الحكومة، فالرجل لم يكن يتوفر على تصور واضح لتحالفاته ولا لبرنامجه الحكومي، كان همه الوحيد فرض إرادته على الجميع، مؤسسات دستورية وأحزاب سياسية، وجعل من منصبه أداة لخدمة مصالح حزبه الضيقة، وفرض هيمنته وسلطته على باقي الفرقاء السياسيين، عوض أن يجعل موقعه في خدمة بلده وصيانة مكتسباته..
ويا ويل لمن تجرأ على الجهر بمعارضته، أو التعبير عن رأي مخالف لأهوائه، فتهمة التخوين وخدمة أجندة التحكم جاهزة..
لقد تبين بما لا يدع مجالا للشك أن بنكيران وحزبه أخطأوا موعدهم مع التاريخ، وأتبثوا أن ما يهمهم هو التحكم في مفاصل الدولة، وبسط سيطرتهم على المجتمع، وأن رفع شعارات محاربة الفساد مجرد وسيلة لحشد الأصوات، لأن هدفهم هو الوصول إلى السلطة، وإذا كان ولا بد من التحالف مع لوبيات الفساد من أجل تأبيد سيطرتهم على مقاليد الأمور فمرحبا بهكذا تحالف!..
إن التحديات التي تواجه المملكة الشريفة، على جميع المستويات، خارجية وداخلية، اقتصادية واجتماعية، تتطلب تواجد رجال دولة يضعون المصالح العليا للوطن خيارهم الأوحد…
رحم الله رجالا من طينة علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله إبراهيم… وأطال الله في عمر أمثال عبد الرحمان اليوسفي…