
د. محمد ياسين العشاب
نتحدث في هذا المقال عن جزئية صغيرة في باب العبادات، ألزمَتْنَا المستجداتُ والحاجة الملحة أن نناقشها من جميع الجوانب، إلا أن ذلك لا يمنع قبل التطرق إليها من الإشارة إلى عمومية الإشكالية المطروحة، ذلك أنه كلما عرضت مسائل في الحياة واستجدت النوازل امتُحِنَ الفقهُ الشرعي في مدى قدرته على استيعابها، وتراءى على مدى النظر حجم الإشكال الكبير والخلل التاريخي الذي أدى بالفقه الإسلامي إلى الوقوف من حين لآخر صامتا أمام نوازل خطيرة في حياة الأمة، بسبب الحذر من إشراع باب الاجتهاد لأسباب عديدة ومتشعبة فصَّلتُها في مقال آخر.
ولعل هذا ما أتاح لكثير ممن يفتقرون للآليات العلمية أن يجازفوا بالأحكام إما اضطرارا بسبب فراغ ساحة الفتوى، وإما تشددا لميل في النفس من غير بصيرة.
وتشاء سنة الله سبحانه وتعالى أن تبتلي البشرية بهذا الوباء لحكمة ربانية أزلية في التغيير، عميقةٍ في تبديل الأحوال وتجديد وجه الكون، وقد قال عالم الاجتماع العبقري عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله في المقدمة:
” وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدَّل الخلق من أصله، وتحوَّلَ العالمُ بأسره، وكأنه خَلْقُ جديد، ونشأة مستَأنَفَة، وعالَمٌ مُحْدَث” المقدمة/53.
ومع هذا التحول الكلي لمجرى الحياة الطبيعية للإنسان، لم يعد بالإمكان مطلقا اعتماد الأحكام الفقهية المتعلقة بالأحوال العادية، أو الاستناد إلى التراث الفقهي الموروث من غير تنخيل واجتهاد لا يتوقف في استخراج الأدلة وتمحيص النصوص واستنباط الأحكام بشكل متجدد ومتواصل يواكب سرعة المتغيرات التي تزداد وتيرتها يوما بعد يوم، وها قد ألزمَ واقعُ الحجر الصحي واضطراب أحوال العالم الفقهَ الشرعيَّ أن ينبعثَ انبعاثًا كفيلاً بحِفظِ الدين وصونِ الحياة الروحية للمسلمين، وإلا اضطربت باضطراب العالم، واختلَّ ميزان الأرواح وهي في أمسِّ الحاجة إلى اعتدالِه، وليس أمامها في هذا الإبَّان العصيب إلا باب الرحمة الإلهية تطرقه في اضطرار ووجَل.
ومع كثرة النوازل واضطرار الناس تنشب الخلافات، وإن كان في بعضها رحمة فإن في بعضها الآخر نقمة إن لم تُلاَمِسِ الواقع وتعايِنْ طبيعة الحياة المستجدة، وإلا ظلت تسبح في تيارها المنعزل أو المتوقف على إيجاد حكمٍ واضح لا تسعفها به النصوص الشرعية، وحَجَّرَتْ فهمها عن استيعاب خصوصيات الزمان وطبيعة التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في الأمم.
ومن مستجدات الأمور أتناول جزئية مسألة صلاة التراويح في شهر رمضان، بما في طيِّها من تأليفٍ للأرواح على جمال القرآن وجلال القرب من الله، واعتياد المسلمين على الأنس فيها بعَذْبِ الأصوات من القراء الحافظين المتقنين لأحكام التجويد، وما يدعو إليه افتقادُها في ظل الحجر الصحي وإغلاق المساجد من ألم وتحسر، وتساؤلٍ تلوَ التساؤل عن البدائل المقترحَة، ويكون الجواب أو بالأحرى الأجوبة مناقضًا بعضُها لبعض فلا تتضح الرؤية.
والسبب في عدم اتضاح الرؤية هو ما ذكرناه من انعزال المفتي عن واقع الناس وما يطرأ على أنفسهم وحياتهم، ومن ذلك أن استئناس المصلين في رمضان بالمقرئين المهرة أنشط لهم وأدعى للمشاركة في هذا الخير، وإلا غلبتهم نوازع الأنفس فمالت بهم إلى التواني والتقاعس في حال الانفراد، فمنهم من لا يتقن قراءة القرآن ولا يستطيع استمالة أفراد أسرته لصلاة التراويح خلفَه، ومن الناس من يتتعتع في التلاوة بما لا يُمَكِّنُهُ من الاصطبار على ختم القرآن.
فإذا نظرنا إلى هذا الأمر مليا وبتدبر وفهم أمكننا الإجابة عن التساؤلات المتعلقة بالموضوع بعيدا عن أي تشنجات أو آراءٍ وفتاوى جاهزة نحترم أربابها، ومن التساؤلات في الباب:
ـ كيف يمكن الحفاظ على سنة التراويح في رمضان مع إجراءات الحجر الصحي من غير إخلال بكافة تفاصيلها المعتادة؟
ـ هل يمكن اعتماد وسائل التواصل الاجتماعي أو غيرها من وسائل الإعلام في إقامة صلاة التراويح داخل البيوت متابعةً لمن يقيمها في بث مباشر؟
ـ هل تجوز صلاة التراويح في البيت رغم عدم التمكن من إتقان التلاوة، أو على الأقل الإتيان منها بالأقل الضروري؟
إلى غير ذلك مما يمكن أن يثار من تساؤلات بالمناسبة.
والجواب وإن اختُلِفَ فيه أن في سماحة الإسلام ورحابته ما يتيح كلَّ ذلك، ولا يحرم أحدا من تذوق جمال العبادات في خير الشهور وقيام لياليه إيمانا واحتسابا، ويشرَعُ البابَ لكُلٍّ منا بحسب اجتهاده، مصداقا لقوله تعالى: “قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِه، فَرَبُّكُمُ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا”، ومن أقفل من تلك الأبواب بابا بعلم أو بغير علم فقد ضيَّقَ واسعًا وحَجَّرَ لَـيِّـنًا.
والجواب المفصل ـ والله أعلم بوجه الحق ـ في ستِّ مسائل، أولها يتعلق بحكم صلاة التراويح وسَعَةِ الشرع فيها باعتبارها سنة لا فرضا، وثانيها حول بطلان القول بمطلق جواز الصلاة خلف وسائل التواصل والإعلام في الجمعة والصلوات الخمس والنوافل، مع تفصيل رأي الحافظ سيدي أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله الذي لم أجِدْ في رسالته قط ما يُجِيزُ الأمر على إطلاقه كما أشيعَ عنه، والمسألة الثالثة حول اختصاص المالكية برأي صحة الصلاة خلف المسَمِّعِ بعيدا، والمسألة الرابعة في مناقشة من يذهبون إلى إطلاقية عدم جواز الصلاة نافلة أو فرضا بالاستماع، والمسألة الخامسة حول ما يتعلق بإشكالية توقف صبيب الأنترنت أو تقطعه أو انقطاع الكهرباء وما شابه ذلك من أوجه الخلل التي يمكن أن تطرأ على هذه الأجهزة، والمسألة السادسة في حدود إمكانية إتاحة المجال لصلاة التراويح عبر وسائل التواصل، وهل لها شروط محددة إن لم تُسْتَوْفَ بطلت الصلاة.
المسألة الأولى: في حكم صلاة التراويح باعتبارها سنة مؤكدة للرجال والنساء، لحديث السيدة عائشة رضي الله عنها: “صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فصلى بصلاته ناس كثير، ثم صلى من القابلة، فكثروا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: قد رأيت صنيعكم، فما يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، وذلك في رمضان” (صحيح البخاري/1129)، والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليصلي قيام الليل في المسجد في رمضان، فصلى الصحابة معه، فلما رأى منهم ذلك في الليلة الأولى والقابلة أي الثانية والثالثة، أخبرهم أنه ما خرج إليهم رحمةً بهم أن تفرض عليهم.
وحكم إمامة التراويح باعتبارها سنة مؤكدة حكم كفاية يتعلق بالحافظ المتقن للقراءة الحسن الصوت إن أمكن، مع اختلافٍ حول أولوية صاحب العلم القارئ غيرِ حسنِ الصوت، وهو أمر لا يتأتى في جميع الناس، وإنما فيمن شرفه الله تعالى بهذا المقام، وبالتالي يكون حرِيًّا به ألا يكتم عن الناس ما آتاه الله عز وجل من فضل وتشريف، خشية الوقوع في وعيد الله ورسوله لكاتم العلم، وهنا يكون مثارَ استغرابٍ شديد ما ورد من كلام عن استحباب صلاة حافظ القرآن قيامَ رمضان منفردا على صلاته في جماعة.
وخلاصة هذه المسألة وجوب إفادة حامل القرآن المتقن للقراءةِ الناسَ مما حباه الله من فضل، وإلا فما قيمةُ أن يستغنيَ بنفسه أو بأهل بيته عن الناس فينفرد بعلمه عنهم، فالأحرى نفعُهم بالخروج لإمامتهم، وفي حالة الاضطرار والعذر القاهر الذي يمنع الناس من الاجتماع عبرَ وسيلة من وسائل التواصل والإعلام، وإلا فلا معنى لذلك في الأحوال العادية التي هي أصل المسائل والأحكام، فنحن نتحدث عن استثناء نادر قدر الله لنا أن نحياه.
من جهة أخرى يمكن أن نستفيد من حكم صلاة التراويح بأنها سنة مؤكدة عددا من الإفادات، منها أن حكم السنة غير حكم الفرض، وأن في صلاة التطوع من التيسير سَعَةً في الأداء خلافا لصلاة الفريضة، وأن استثناءَ الاستعانة بوسائل التواصل في الملمات الشديدة إن لم يسوغ في الفريضة جاز في النفل بشروط لا بد منها، كضرورة أن تكون الصلاة مباشرة غير مسجلة، وأن تكون بتوقيت البلد غير متقدمة أو متأخرة عنه، وأن يكون الإمام معلوما للناس غير مجهول لكي لا يفتح باب الإمامة من غير أهلية.
المسألة الثانية: حول بطلان القول بمطلق جواز الصلاة خلف وسائل التواصل والإعلام في الجمعة والصلوات الخمس والنوافل، لأنه قول خطير يترتب عليه إبطال الجماعة وتعطيل المساجد وتقاعس الناس عن السعي إليها.
وما كان ليتجاسر على مثل هذا القول أحدٌ من العلماء، وإنما دفعني إلى ذكره ما قرأت واستمعت إليه من بعض أهل العلم من نسبة هذا الرأي الخطير إلى الحافظ سيدي أحمد بن الصديق الغماري رحمه الله في رسالته: الإقناع بصحة صلاة الجمعة في المنزل خلف المذياع، مع أن نسبة الرأي المذكور إليه عارٍ من الصحة عند كل من قرأ الرسالة بتمعن واستبصار، ولم يمرَّ على مضامينها مرَّ الكرام.
ذلك أن أصل المسألة التي انعقدت عليها الرسالة جملةً لم يرِدْ فيها ذكرٌ على الإطلاق لغير صلاة الجمعة، ولم أجِدْ في أي سطر منها إشارة إلى الفرائض الخمس، وإنما كانت تفاصيلُها ردا على سؤال يتعلق بنازلة معينة يخبرنا بها شقيق المؤلف الحافظ سيدي عبد الله بن الصديق رحمه الله حين يقول:
“فقد رُفِعَ سؤال إلى شيخنا فقيه الديار المصرية ومفتيها وعالمها المغفور له الشيخ محمد بخيت المطيعي من بعض علماء الهند يسألونه عن حكم الشرع في وضع جهاز الراديو ببعض المساجد لقلة الخطباء الذين يحسنون اللغة العربية، وبعد سماع الخطبة يقدمون أحدهم فيصلي بهم صلاة الجمعة” هكذا في تقديم الرسالة، وكان الرد معلِّقًا لا بإجازة الخطبة بغير اللغة العربية، ولا بإجازة استعمال المذياع بسبب عدم موافقة ما اشترطه الأئمة الأربعة لصحة صلاة الجمعة، فلم يجد السائلون من سبيل إلا تعطيل صلاة الجمعة! الأمر الذي حدا بصاحب الرسالة إلى تبيين وجه الصواب في المسألة بالكَيف الذي لا يبطل صلاة الجمعة في هذه النازلة، واعتبر أن مُعتَمَدَ الشروط التي ذكرها الأئمة لم يكن نابعا من كتابٍ أو سنة حتى نتمسك بها تمسُّكَ مبطلٍ لأصل الفريضة، “إلا بعضَ آثارٍ عن بعض الصحابة وبعض تأويلات تبتعد عن سماحة الشريعة الإسلامية” (الإقناع/19).