
ياسين ماخو*
بادئ ذي بدء لا بد من الجزم بأن الإحتجاج لا يعدو أن يكون واحدا من أشكال التواصل الحديث، والذي من خلاله يعبر الفرد عن رفضه أو أحقيته بشيء ما . فالإحتاج هو شكل من أشكال التواصل المتشعبة، والذي يمكن أن يكون سلبيا أو ايجابيا. ويبقى السؤال المطروح هنا هو: أي شكل من أشكال الإحتجاج هو جزء من العملية التواصلية الناجحة ؟ أليست هناك معايير تحدد ما مدى ارتباط إحتجاج معين بالتواصل الفعال ؟..
يُعرف التواصل على أنه الاقتران والاتصال والترابط والالتئام والجمع والإبلاغ و الانتهاء والإعلام، وبالتالي فهو عملية تكون بين شخصين أو أكثر )مرسل و مرسل إليه (،والغاية من هذا التواصل تختلف حسب الأشخاص والمواضيع، التي هي في صلب العملية التواصلية. لكن الغريب في الأمر هو أن هاته التعاريف لا تجد لها أذانا صاغية، بل إنها تظل حبرا على ورق، بسمو غاياتها وأهدافها ولا يتم تجسيدها على أرض الواقع.
فثقافة الاحتجاج قد أُسيء فهمها، حيث أصبحت وسيلة تشوبها مجموعة من العراقيل، التي تجعل من التواصل غاية يستحيل تحقيقها بمعناها الإيجابي. وعليه أضحى السب والشتم وتخريب الممتلكات أسمى ما يقوم به الفرد بغية تحقيق مراده ولفت الإنتباه. والعجيب في الأمر هو أنك ترى بأن بعض من ينهجون نهج الإحتجاج غبر الحضاري هم أيضا من الفئة المثقفة. الفئة التي تدعي المعرفة والثقافة هي نفسها التي تخرب وتسب وتشتم وتنسف كل الأشكال الحوارية التي تنبتق منها جل القيم الحظارية.
إن الذي أصبو إليه من خلال هذه الأسطر المعدودات ليس هو التشديد على مصادرة الحق في الإحتجاج. فهو حق مصون في الدستور، وبالتالي فكل مواطن له كامل الحرية في التظاهر وفق ضوابط وقوانين معينة. لكن الذي أشدد عليه هو أنه وجب تبني أشكال للتظاهر تكون راقية شكلا ومضمونا، وكذا مفعمة بحس المواطنة المسؤولة. فلامرحبا بالإحتجاج الذي يؤدي إلى تخريب الممتلكات العامة، أو الذي يحيد عن قيم التواصل الإنسانية. فالإحتجاج والتواصل وجهان لعملة واحدة، حيث أن نجاعة الأول رهينة بنجاج العنصر الثاني.
أما فيما يخص أمثلة الاحتجاج غير المسؤول، فهذه الأخيرة تتخذ أشكال متعددة في المجنمع. فتارة في ملاعب كرة القدم حيث العنف يتجسد في تخريب الممتلكات، و مواجهات دامية بين الجماهير. وتارة في المؤتمرات والملتقيات، حيث صافرات الإستهجان و التشويش بشتى تلاوينه والسب والشتم، والتي أضحت سلوكيات تمارس بحذافيرها في كل المحافل التي تتخذ من التواصل البناء أرضية لها. ناهيك عن بعض المؤسسات رفيعة المستوى، فعوض إعطاء المواطن أمثلة حية عن التواصل الإيجابي، تقوم هذه الأخيرة وعلى الهواء مباشرة بتلقيننا أبجديات الإحتجاج السلبي. حيث أضحت هذه المؤسسات والمنابر مرتعا لكل موبقات التواصل البناء. ومايزيد الطينة بلة هو أن سلوكيات من ينشطون تحت قبة تلك المؤسسات، قد أضحت حجة دامغة لأولئك الذين يسبون ويخربون . فطالما أن الإحتجاج السلبي قد انبثق من رحم تلك المؤسسات، فسيدعي كل فرد أحقيته في تبني أي شكل من الإشكال الإحتجاجية حتى وإن كانت سلبية.
وبالحديث عن أمثلة الاحتجاج الحضاري و المسؤول، فإنه حري بنا استحضار الشعب الياباني باعتباره مدرسة تعلمنا، وتطلعنا على أخر ما جادت به القيم الحضارية. فاليابان هو من بين البلدان التي تؤسس لمفهوم منطقي لما يصطلح عليه بالمواطنة المسؤولة، بإعتبارها مبدأ لا يزيغ عنه أي مواطن مهما بلغت مكانته وحظوته في المجتمع. وهنا سنقتصر فقط على عينة واحدة من مظاهر التقدم الحضاري في ذلك البلد الأسيوي ألا وهي ثقافة الإحتجاج.
أولا وقبل كل شيء لا يجب الخلط بين مفهوم الإحتجاج لدينا كبلد لازال يتخبط في غياهب العالم الثالث، وبين التعريف الذي نجده عند بلد في مصاف الدول المتقدمة. فإذا كنا نترجم الإحتجاج على أرض الواقع في التخريب والتحريض والسب والشتم، فإن ذوي العيون الضيقة والعقول النيرة يختزلون ذلك في وضع شارة حمراء على الذراع، تعبيرا منهم عن استيائهم تجاه قانون أو سياسة ما. فالشارة الحمراء بصغر حجمها هي ذات دلالات كبيرة عند شعب قدس العمل، ولم ير في الإضراب أو الاحتجاج فرصة للتهرب من المسؤولية ومناسبة لنسف القيم التواصلية.
ومن جهة أخرى وجب التأكيد على أن مسؤولية تفشي ظاهرة الإحتجاج غير المسؤول، هي مشتركة بين الطرف المحتج والمُحتج عليه. فهذا الأخير بدوره يلعب دورا حاسما في تحديد شكل الاحتجاج، الذي يتبناه الطرف الأخر. وبالتالي فعندما لا تجد أذانا صاغية لمطالبك فإن هذا سيضطر ك لا محالة إلى الخروج عن القاعدة، وسيدفعك إلى إستعمال اساليب تواصلية شاذة قصد لفت انتباه الجهة المعنية. فاختيار اليابانيين للشارة الحمراء كشكل من أشكال الإحتجاج لم يأتي من فراغ. وإنما تأتى ذلك فقط عندما تم التأسيس لمقاربة تواصلية شمولية بين كل مكونات المجتمع الياباني، تأخذ بعين الاعتبار كل المطالب الشعبوية دون تجاهل أو تمييز. وعليه فإن الجهات المعنية باحتجاجات المواطنيين هي مسؤولة بشكل مباشر عن المسار الذي ستصير وفقه تلك الإحتجاجات.
* ” أستاذ متدرب بالمركز الجهوي للمهن التربية و التكوين بطنجة “