
د.محمد ياسين العشاب
واجتهد صاحب الرسالة برأيه في اعتبار أن المقصود من الجمعة حاصلٌ بسماع الخطبة بأي وسيلة كانت عند الاضطرار، وأن تحقيق الاستماع للخطبة بهذه الوسيلة داخل المسجد بسبب عدم وجود خطباء تصح به الجمعة (الإقناع/19 ـ 20)، فكما أن صلاة الفريضة تصح في البيت فردا أو جماعة، فكذلك تصح صلاة الجمعة وإن كانت الخطبة استماعا من خلال المذياع، لكن هذا لا ينفي في حالتي الجمعة والصلوات الخمس ضياع الأجر والفضائل من قبيل نقل الأقدام إلى المساجد، وكثرة الخطى، وانتظار الصلاة في المسجد، والاجتماع مع المسلمين، والقصدُ في الجواز أن يكون بعذر حاصل، ولا عذر في ترك الجماعة بغير طارئ، يقول المؤلف رحمه الله:
“ويكون بصلاته في البيت مفوتا لهذه الحسنات الجمة والفضائل الجسيمة مع صحة الصلاة، وكذلك الجمعة، فالكلام في الصحة والبطلان لا في الفضل وعدمه، إذ لا يعقل تفضيل مطلق الفريضة في البيت عليها في المسجد بدون عذر وضرورة مع ورود النص بالتفضيل” الإقناع/20.
ويذكر المؤلف رحمه الله فيضا من الأدلة لا مجال لذكرها هنا عن صحة صلاة الجمعة خارج المسجد بإمامة إمام المسجد عند الاضطرار، كامتلاء جنباته بالمصلين (الإقناع/30)، وهنا يجتهد الرجل في سياق الكلام عن صلاة الجمعة وليس غيرها من الفرائض ـ بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه ـ فيقول: “متى جازت الصلاة خارج المسجد في البيت البعيد عنه بمائة ذراع جازت في البيت البعيد عنه بآلاف الأذرع متى وُجِدَ سماع صوت الإمام وإمكان الاقتداء به في جميع حركات الصلاة، إذ لا دليل على التحديد أصلا”، ثم يشترط على صحة ما تقدم شروطا بالغة الأهمية والصعوبة أحيانا فيقول:
“لا بد من مراعاة الشروط التي ذكرنا أولا، وهي اتحاد وقت البلد الذي فيه الإمام مع وقت البلد الذي يكون فيه المأموم، ولا يكاد يتحد إلا في المدن القريبة، وإلا فقد يكون وقت الصلاة في بلد الإمام لم يدخل بعد في بلد المأموم، فتكون الصلاة باطلة بيقين…
كما يجب مراعاة تقدم البلد التي فيها الإمام إلى جهة القبلة عن بلد المقتدى به حتى لا يكون المقتدي متقدما على الإمام فتكون صلاته غير صحيحة”(الإقناع/64).
كما ذكر المؤلف في ختام رسالته الأحكام التي قد تنجم عن انقطاع التيار الكهربائي أثناء سماع الخطبة.
وخلاصة هذه المسألة أن الكلام إنما ينصرف حصرا للنوافل دون الفرائض، وصلاة التراويح من النوافل المسنونة، وأن أحدا من العلماء لم يتحدث قط عن جواز أداء الفرائض خلف وسيلة من وسائل الاتصال، ولو في حال الاضطرار.
المسألة الثالثة: يذهب أئمة المالكية وبعض الشافعية والحنابلة إلى أن رؤية الإمام وسماعه واتصال الصفوف هي شروط كمال لا شروط صحة في الصلاة، فجاز الاقتداء بالإمام سماعا وإن كان بعيدا والمأموم في منزله، قال الشيخ خليل رحمه الله في المختصر: “ومُسَمِّعٍ واقتداءٌ به، أو برؤيته وإن بدار”، والمراد كما في “مواهب الجليل” ما أفتى به مالك رحمه الله في المدونة بقوله:
“ولو أن دورا محجورا عليها، صلى قوم فيها بصلاة الإمام في غير جمعة، فصلاتهم تامة …، وكذلك إذا لم يكن لها كُوًى ولا مقاصير إلا أنهم يسمعون الإمام فيركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده”.
وفي المدونة عن ابن وهب عن سعيد بن أيوب عن محمد بن عبد الرحمن رحمهم الله أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كُنَّ يُصَلِّينَ في بيوتهن بصلاة أهل المسجد (مواهب الجليل 1/269).
ومن ذهب هذا المذهب من المالكية الذين جرى العمل بمذهبهم في المغرب تصح استنادا إلى حججهم صلاةُ المقتدي بالإمام عن بعد، سواء في الفريضة أو غيرها، إلا أن الصحة لا بد أن تقترن بالعذر، وليس الإطلاق، ومن ذلك عذر الازدحام الذي يبيح الصلاة في باحات المساجد والأحياء المجاورة لها، ويتسع بعد المسافة المتاح في ذلك بقدر قوة مكبر الصوت، وناهيك بما يحصل في الساحات المجاورة للحرم من متابعة للإمام وعلى مسافات متباعدة عنه.
وإذا قَوِيَ العذرُ وعَظُمَ خطره، ومع التطور الحاصل في وسائل التواصل والإعلام فلا مسوغ لمنع الاقتداء بالمُسَمِّعِ ولو على مسافات متباعدة شريطة موافقته لتوقيت البلد في غير الفريضة، لأن في النوافل سَعَةً كفيلة برفع الحرج غير ما في الفرائض، وهو الرأي الذي يذهب إليه العلامة الأستاذ أحمد الريسوني، لأن الأمر يظل في جميع الأحوال استثناءً يرتفع بزوال العذر.
من جهة أخرى واستنادا على ما تقدم من رأي المالكية، فإنه من الخطإ بمكان في هذه الظرفية الخاصة الاستثنائية والنادرة الحدوث أيضا، عدم السماح للأئمة فقط بإقامة الصلوات الخمس داخل المساجد باستعمال مكبرات صوت الصوامع للسماح بمتابعة الناس للإمام من منازلهم، وبالتالي لا تتوقف صلاة الجماعة، وكذلك الأمر بالنسبة لصلاة التراويح، فيُسْتَغْنَى بذلك عن وسائل التواصل إلا بالنسبة لمن لا يصله الصوت، لاسيما وأن مذهب المغاربة هو المذهب المالكي الذي توسع في الأمر دون سائر المذاهب، والأدهى من ذلك صمت العلماء الرهيب الذي لم يُتِحْ توجيهَ المسؤولين عن إدارة الأوقاف إلى شيء، والأمر من الخطورة بمكان كلما طال الأمد على هذه المحنة، وابتعاد الناس عن روح الجماعة.
وناهيك باعتماد هذا الأمر حاليا في الحرمين الشريفين، واستمرار أداء الصوات الخمس برفع أصوات المكبرات في المسجد الحرام والمسجد النبوي، الأمر الذي يتيح لأحياء كثيرة يصلها الصوت متابعة الإمام.
ومن غير المقبول أيضا عدم الالتفات إلى كثير من السنن الحسنة التي لم تكن أزمة الحجر الصحي لتحول دونها، كقراءة الحزب الراتب بعد صلاتي المغرب والصبح، وإنْ بأداءٍ فردي مع استعمال مكبر الصوت الخارجي، وكذلك تهاليل السَّحَر التي ينبغي التمديد فيها والإكثار من التهليل والتكبير بأصوات عذبة تجدد عزائم القلوب والأرواح، وتُسَرِّي عنها في الظروف العصيبة، وتستمطر قبل ذلك وبعده رحمات العلي الجبار أن يتجلى على البشرية بلطفه.
المسألة الرابعة: في قول من ذهب إلى عدم الجواز مطلقا في نفلٍ أو غيره وإن في حالة العذر القوي والحرج الشديد، وهو ما ذهبت إليه اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية، لاعتبارهم أن رؤية الإمام واتصال الصفوف هي شروط صحة لا كمال في الصلاة، وخشيةً من الآثار الخطيرة التي قد تترتب عن الأخذ بهذا الأمر على إطلاقه من تعطيل لغاية الجماعة وحكمتها الشرعية.
ومن غير استرسال في مناقشة ما استندوا عليه من أدلة شرعية، فإن مجمل ما ناقشوا لا تحس من خلاله باستحضار واقع العذر والاستثناء الذي لا يتكرر على وجه الزمان إلا نادرا وفي مدد محدودة، وإلا كان اجتهادهم إغلاقا لباب واسع من السماحة يحرم فئات عريضةً من المسلمين من توطيد أواصر التواصل الروحي ودعم القوة النفسية في أوج الاضطرار.
ومن المستغرب بقوة عدم الانتباه إلى قساوة الواقع وشدَّةِ الأزمة التي تمر بها الإنسانية في هذه المرحلة العصيبة القاسية التي تتعطل فيها أحكام كثيرة، وكيف أن وسائل التواصل يُلجَأُ إليها اليوم في كل أمر يتصل بتفاصيل حياة الإنسان، فتنقل الكلمات والمحاضرات والبرامج، فكيف لا تنقل الصلوات وقراءة القرآن لتحافظ على بعضٍ من الأجواء الروحانية لشهر رمضان، على أن يظل الاختيار مفتوحا لمن شاء المتابعة أو شاء الاستغناء بمحفوظه من كتاب الله، أو الاكتفاء بالاستماع خارج الصلاة.
وعندما يتعلق الحكم باستثناء وطارئ مؤقت فإنه لا يأخذ حكم المطلق، ولا يكون منطقيا أن يعتمد فيه الحكم العام العادي المتعلق بالأحوال المستقرة، ولا تقتضي كل نازلة طارئة مستجدة نصا مباشرا من قرآن أو سنة أو أقوال الصحابة والتابعين والعلماء المتقدمين، فقد استنبطت من كل ذلك قواعد شرعية عامة هي الأدلة التي تُحَصِّلُ أحكام الفروع وتتخرج عليها الحوادث والنوازل غير المنصوص عليها شرعا، والاستدلال بها حجة، وفي ذلك سَعَةٌ كبيرةٌ ورحمة يضيِّقها انحباسُ الفكر على فهمه المحدود للحكم الشرعي.
ومن ذلك مثالا لا حصرا، قاعدة الحديث النبوي “إنما الأعمال بالنيات”، فليس كل ما يُفعَلُ في ساعة العذر يُحمَل على أنه مخالفة شرعية، ولا تتحقق المخالفة بغير نية وقصد، ومن تلك القواعد أيضا “الأمور بمقاصدها”، وهل تساءل الناس عن صلاة التراويح إلا محبة وصدقا وعزيمةً على البر؟ وقد قال العلماء في شرح هذه القاعدة: إن الحكم الذي يترتب على أمر يكون على مقتضى ما هو المقصود من ذلك الأمر، ومنه تأصلت القاعدة الفقهية: العبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، و”الثابت بالعيان كالثابت بالبرهان”، وما أثبت نفسه بملابسات ظروفه لا يخضع لغير حكم الواقع.
ومن القواعد الفقهية قاعدة: الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته، أي اقتران حكمه بزمان وقوعه وأحواله التي أدت إليه، وفي هذه القاعدة سعةٌ تنظر إلى كل أمر بحسب ظروفه ومقاصد حدوثه…
المسألة الخامسة: ما يتعلق بإشكالية توقف صبيب الأنترنت أو تقطعه أو انقطاع الكهرباء وما شابه ذلك من أوجه الخلل التي يمكن أن تطرأ على الأجهزة، وهو أمر فصله سَلَفُ العلماء افتراضًا من فرط ما توسعوا في طرح المسائل، وفي نحو ذلك يقول أحد أئمة المذهب المالكي العلامة أبو زيد السوسي الجزولي الجشتيمي رحمه الله عالم سوس وإمامها في القرن الثامن عشر الميلادي:
وَمَنْ يُصَلِّ بِإِمَامٍ وَانْقَطَعْ*.*تَسْمِيعُهُ فَفِي التَّرَدُّدِ وَقَعْ
فَقِيلَ يَقْطَعُ وَقِيلَ بِالتَّمَامِ*.*وَالْأَوَّلُ الْمَشْهُورُ حَتْمًا لِلْإِمَامِ
أي الأفضل عند الانقطاع أو الخلل إتمام الصلاة للمتابعين فرادى وبقراءة ما تيسر من المحفوظ إن كان الانقطاع في الركعة الأولى.
ولا يتابع الإمام عبر الوسائل البعيدة في حال عدم التثبت من سلامة أجهزة الاتصال أو ضعف الصبيب والتيقن من حدوث الخلل.
المسألة السادسة: في حدود إمكانية إتاحة المجال لصلاة التراويح عبر وسائل التواصل، وهل لها شروط محددة إن لم تُسْتَوْفَ بطل الاجتهاد، والجواب أن هناك شروطا لازمة:
1 ـ فأول تلك الشروط وآكَدُهَا على الإطلاق وقوع الحرج والطارئ الشديد الذي يمنع الناس من الخروج إلى المساجد، وبزوال العذر يرتفع الحكم ارتفاعَ انتفاء.
2 ـ وثاني الشروط معرفة الإمام واشتهار حفظه وتمكنه من التلاوة بإحدى القراءات المعروفة، وحبذا لو كان معروفا بإمامته للتروايح بالمساجد قبل العذر، وذلك لئلا يفتح الباب لكلِّ من شاءَ الإمامة من غير أهلية، وإلا تجرَّأَ عليها غيرُ أهلها ممن لا يتقن الحفظ والترتيل فتكون فوضى، ولمن شاء الاجتهاد في هذا الأمر الانتقاء والاختيار وعدم إتاحة نفسه لإمامة أيٍّ من كان.
3 ـ الحرص ما أمكن سواء من الإمام أو المأموم على سلامة وسائل الاتصال وجودة الصبيب قبل الشروع في الصلاة، لدرء حصول الخلل أو الانقطاع في حدود المستطاع.
4 ـ إتحاد وقت الصلاة بين الإمام والمأموم، فلا يجوز متابعة إمام في صلاة التراويح مع فارق زمني كبير، فيسبق مثلا في قيامه صلاة العشاء بمدينته، أو يتجاوز صلاة الصبح، وإنما الوقت المحدد اللازم لقيام رمضان هو ما بعد صلاة العشاء إلى صلاة الصبح.
5 ـ أن يكون البث حَيًّا مباشرا لا مُسَجَّلاً، وإلا بطلت غاية المتابعة.
أخيرا فإن في الأمر سعة وفضلاً من الله لا يُحَجَّر، وكان الأصل إقامة صلاة التراويح بالمساجد بحضور الإمام والمؤذن متباعدين، واستعمال مكبرات الصوت، ومتابعة الناس له في بيوتهم.
فإن لم يتأَتَّ ذلك جازَ لمن عَزَمَ على الإمامة والتلاوة من المصحف أو المحمول بأهله اجتهادُه، وله الأجر والثواب والفضل، مع الاجتهاد في عدم اللحن إلا قليلا مغتَفَرا، لقول ابن الجزري رحمه الله:
وَالأَخْذُ بالتَّجْوِيدِ حَتْمٌ لاَزِم*..*مَنْ لَمْ يُجَوِّدِ الْقُرَانَ آثِم
ولا يقع الإثم مع سلامة النية، والطفل المميِّزُ حامل القرآن يؤم أهل الدار إن لم يكن فيهم حافظ غيره.
وأما الحفظة المهرة فواجب عليهم عند إمامة أهل بيتهم تيسيرُ البث المباشر إن أمكن تعميما للفضل والاستفادة، فيكون بثهم للتلاوة والقرآن ألفة للأرواح.
ويظل القصد أولا وآخرا هو الانجماع الكامل على الله عز وجل في هذه المحنة الشديدة، ودوام الضراعة والبكاء والدعاء المتواصل، وصدق الطلب والقصد والالتجاء بكل الوسائل.
والله أعلم.