أخبار من الصحراء

من “كراطين السكر” إلى “البونتي” و”البت”: زواج اليوم بين الأصالة والتكلف

الأربعاء 30 يوليو 2025 - 22:23

من “كراطين السكر” إلى “البونتي” و”البت”: زواج اليوم بين الأصالة والتكلف

لم يعد الزواج في المجتمعات المغاربية، وخصوصًا في بعض الأوساط الصحراوية والموريتانية، مجرد عقد شرعي يجمع روحين على نية الاستقرار، بل تحوّل في العقود الأخيرة إلى مناسبة استعراضية باهظة تُقاس بقيمة الهدايا، وعدد الفنانين الحاضرين، ونوع الهاتف المُقدَّم في “البونتي”، وقيمة الأغنية المُهداة للعروسين. وبين ما كان في الماضي من بساطة، وما صار في الحاضر من مغالاة، تُطرح أسئلة جوهرية:
هل ما نعيشه اليوم تطور طبيعي لمظاهر الزواج؟ أم أننا أمام انزياح عن مقاصده الأصلية؟ وهل يمكن للطبقات الفقيرة أن تواكب هذا التغير دون أن تنهار؟

التحوّل من التيسير إلى التفاخر: أين اختفى جوهر الزواج؟

في الماضي، لم تكن مراسم الزواج تقتضي أكثر من ناقة أو خروف، وبعض كراطين السكر أو القماش، ويُعدّ ذلك مهرًا مقبولًا. كانت الأسر تُراعي الوضع المادي للعريس، ولا تقيّم الزواج بحجم ما يُنفق بل بنية الاستقرار والمعاشرة الطيبة.

لكن اليوم، تحوّل الزواج إلى مشروع مالي ضخم، يبدأ من تجهيز “البونتي” – وهي حقيبة تضم هاتف “آيفون” حديث، وعطورًا وعلب شوكولاتة فاخرة – ويصل إلى كراء سيارات فارهة، وحجوزات في قاعات فخمة، واستقدام فنانين لإحياء الحفل.

هذا التغير فرض إشكالية اجتماعية عميقة:
هل بات الزواج حكرًا على الطبقات القادرة ماديًا؟ وهل يمكن أن يصمد زواج بُني على الديون والمظاهر أمام أول تحدٍ حقيقي؟

“البت” و”العلاگة”: الغناء… عبء آخر على كاهل العريس

من التقاليد التي باتت تُثقل الزواج أكثر، في بعض المناطق الموريتانية والصحراوية، استدعاء فنانين من العاصمة أو المدن الكبرى لأداء “البت” – وهي أغنية تقليدية تُنظم خصيصًا للعروسين، تحمل كلمات مديح وانتماء قبلي، ويصل ثمنها إلى 4 أو 5 ملايين أوقية قديمة (40 إلى 50 ألف درهم مغربي تقريبًا).

وفي سياق الحفل نفسه، تنطلق طقوس “العلاگة”، حيث يقوم الفنان بشكر القبائل الحاضرة واحدًا تلو الآخر، وهنا يُتوقع من أفراد كل قبيلة أن يقدموا له مبلغًا من المال فور ذكر اسمهم.
في الظاهر، يبدو ذلك تكريمًا للفن والفنان، لكن في العمق، يتحوّل الحفل إلى مناسبة لاستعراض الجاه والمكانة، ويُضاعف الضغط المادي على العريس وأسرته.

التفاوت الطبقي… حين يُصبح الزواج أداة فرز اجتماعي

الزواج في صيغته الحالية لم يعد مجرد علاقة بين شخصين، بل مرآة تعكس التفاوت بين الطبقات. فبين من يستطيع تأمين “البونتي” و”البت”، وبين من لا يقدر حتى على كلفة المهر البسيط، تنشأ فجوة تعمق من عزوف الشباب عن الزواج، وتدفع الكثيرين لتأجيله أو التخلّي عنه كليًا.

وهنا تظهر الإشكالية الكبرى:
هل يُعقل أن يُصبح الزواج – الذي شُرّع في الأصل للتيسير – أحد أكبر مسببات الإحباط والضغط الاجتماعي؟

بين مَن يرى التطور ومَن يحنّ إلى الأصالة: جدل لا يُحسم

تتباين مواقف المجتمع حول هذا التحوّل.
فالمؤيدون يعتبرونه جزءًا من “تطوّر الزمن”، ويقارنون مظاهر اليوم بما كان يُهدى قديمًا من إبل وأثاث فاخر، معتبرين أن الجوهر لم يتغيّر، بل الأدوات فقط.

أما المعارضون، فيرون أن ما يجري هو تشويه للثقافة الأصلية، وأننا أمام تكلّف مستورد، لا علاقة له لا بالدين ولا بالتقاليد الأصيلة، ويستدلون بأن كثيرًا من الزيجات القديمة، رغم بساطتها، دامت عقودًا على المحبة والرضا.

الزواج… التزام لا يُقاس بالشكولاتة ولا بالمغنيين

في النهاية، فإن ما يجب أن يُعاد ترسيخه هو الفهم الحقيقي للزواج:
هو التزام طويل الأمد، لا تقويه عطور باريس ولا موائد مترفة، بل تبنيه النية الصادقة، والقدرة على التضحية والصبر.

إن إعادة النظر في ثقافتنا حول الزواج، أصبحت ضرورة مجتمعية، لا فقط لتقليص التكاليف، بل لحماية المعنى الحقيقي لهذه الرابطة، وتيسير سُبلها أمام من يريد أن يبدأ حياة قائمة على الاستقرار لا على الاستعراض.